استقلالية البنوك المركزية تحت التهديد
يُعتبر استقلال البنوك المركزية أحد الركائز الأساسية للحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي، حيث تتيح هذه الاستقلالية اتخاذ قرارات نقدية بعيدة عن الضغوط السياسية المباشرة. في هذا السياق، حذّرت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، من خطورة محاولات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب فرض سيطرته على الاحتياطي الفيدرالي. وأكدت أن مثل هذا التدخل يُعد تهديدًا مباشرًا لاستقرار الأسعار ومصداقية المؤسسات النقدية الأمريكية، الأمر الذي ينعكس بالضرورة على الأسواق العالمية. فحين تتحول السياسة النقدية إلى أداة بيد السلطة التنفيذية، تُفقد فعاليتها في مواجهة التضخم، وتضعف ثقة المستثمرين في الأسواق. هذا الخطر لا يقتصر على الولايات المتحدة فقط، بل يمتد إلى الاقتصادات المرتبطة بها عبر شبكات التجارة العالمية وأسواق المال. التحذير من لاغارد جاء بمثابة جرس إنذار على أن المساس باستقلالية الفيدرالي قد يؤدي إلى عواقب تتجاوز الحدود الجغرافية، لتشكل صدمة شاملة للنظام المالي الدولي.
التداعيات المحتملة على الاقتصاد الأمريكي والعالمي
السيطرة السياسية على قرارات الفيدرالي تعني أن تحديد أسعار الفائدة قد يُبنى على اعتبارات انتخابية قصيرة الأمد، بدلًا من أهداف الاستقرار طويل المدى. هذه الديناميكية تفتح الباب أمام تقلبات حادة في الأسواق المالية، وانخفاض ثقة المؤسسات الدولية في العملة الأمريكية. بالنسبة للمستثمرين، أي فقدان لمصداقية الفيدرالي يُترجم إلى ارتفاع في تكاليف الاقتراض وتذبذب في عوائد السندات، ما قد يضغط على النمو الاقتصادي. أما عالميًا، فإن أي اضطراب في الاقتصاد الأمريكي، باعتباره الأكبر عالميًا سينعكس فورًا على تدفقات التجارة، وأسعار السلع الأساسية، وحركة رؤوس الأموال. لاغارد شددت على أن هذا السيناريو سيزيد من هشاشة الاقتصاد العالمي في وقت يشهد أصلًا تحديات مثل التضخم المرتفع والتباطؤ في بعض الأسواق الناشئة. ومن ثم، فإن استقلال الفيدرالي ليس مجرد مسألة داخلية أمريكية، بل قضية محورية لاستقرار الاقتصاد العالمي بأسره.
بين السياسة والاقتصاد، معركة الثقة
تحذيرات لاغارد تكشف عن معركة أعمق بين منطق الاقتصاد ومتطلبات السياسة. ففي الوقت الذي تحتاج فيه الأسواق إلى رسائل واضحة ومستقرة من البنوك المركزية، يسعى بعض القادة السياسيين مثل ترامب لاستخدام أدوات السياسة النقدية لخدمة أجنداتهم الخاصة. هذا التناقض يُولّد حالة من الغموض وعدم اليقين، وهي البيئة الأسوأ لأي مستثمر أو مؤسسة مالية. فقدان الثقة في قدرة الفيدرالي على اتخاذ قرارات مستقلة قد يقود إلى هروب رؤوس الأموال من الولايات المتحدة، أو إعادة تقييم مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية. لذلك، لا يقتصر التحذير على خطورة تدخل فرد بعينه، بل يتعداه ليُشير إلى الحاجة الملحّة لصون استقلالية المؤسسات النقدية حول العالم. فبدون هذه الاستقلالية، تصبح السياسة النقدية مُستغلّة لأغراض سياسية، مما يضعف استقرار النظام المالي الدولي ويدفع الأسواق إلى دائرة من الأزمات المتكررة.
